السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
◘ أوروبا أحرقت اليهود وأرسلت من تبقى منهم لإحراق الشرق الأوسط!
بقلم: جمال محمد تقي
التعامل العنصري مع اليهود في أوروبا ومنذ العصور الوسطى وحتى مراحل متقدمة من العصر الحديث واقع تاريخي تشهد له آثار تلك الفترات وما كُتب عنها، وصورة اليهودي لدى الأوروبيين ربما لا تزيد أو تقل عن صورة شخصية (شايلوك) في أدب (شكسبير) إلا بالشيء القليل، ولفظة (الغيتو) هي أوروبية النشئة ولها كيانها الفعلي في كبريات المدن الأوروبية، روما، البندقية، فينا، امستردام، موسكو، مدريد، وارشو، برلين، باريس، أثينا، جنيف، استوكهولم، هلسنكي، بودابست، براغ، بروكسل وغيرها، أي ليـس صحيحاً أن العرب والمسـلمين هم من اخترع (الكاركتير) الذي اشـتُهرت به ملامح اليهودي حول العالم ـ أنفٌ طويل يشم رائحة المال وعن بُعد، وهمسٌ يحوم بتأمر حول الثروة والنفوذ وأينما كانا، وفكرٌ وفعلٌ شيطاني يبتغي إخضاع الآخرين واستعبادهم!
لقد كانت الكنيسـة الحاضنـة الشـرعية للمواقف السـلبيـة إزاء اليهود، على اعتبار أنهم هم من قتل المسـيح عليـه السـلام، وهذا ما يُفسـر أيضا إنكار الكثير من اليهود ليهوديتهم وتغييرهم لديانتهم، ومع ظهور البروتستاتية اعتنقتها الكثرة الكثيرة منهم، لا شك في أن هذه الممارسات التاريخية إضافة لخصوصية المعتقدات اليهودية وحرصها على الإنغلاق لإيمانها بأن نسلها وحده يحمل البركة الإلهية ـ "شعب الله المختار" ـ وأن التلذذ صبراً بالإضطهاد والتعود عليه وتبريره بالإمتحان الإلهي حتى يجيء الزمن الموعود؛ زمن إقامة الهيكل من جديد، قد جعل لهم خصوصية نفسية أيضاً عززتها تفاعلات العزلة الذاتية والعزلة المفروضة من الخارج!
يمكن اعتبار حالة اليهود أكثر الحالات تعبيراً عن ابتزاز واقع أن "الحاجة أم الاختراع"، فتصور أن يُحرم اليهود في العديد من مجتمعات العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة في أوروبا، من ممارسة الأعمال المعروفة وجعلها حكراً لغيرهم، بمعنى أنهم كانوا مجبرين على تمييز أنفسهم بإشارة ما أو زي محدد يتعرف من خلاله عليهم مواطني المدينة الآخرين، فكُتب عنهم بأنهم هم من استبدع أعمال لم تكن معروفة وقتها وبالتالي ليست ممنوعة، كبيع الملابس المستعملة، و(الأنتيك)، والمبادلة بالحاجات المنزلية أو الدِلالة ـ سماسرة العقارات ـ، وكُتب أيضاً أن جماعات من يهود أسبانيا مثلاً راحوا يمتهنون بعضاً من مهن الغجر والذين تعمدوا تعلمها لأنها غير شائعة في المدن الأوروبية، حيث لا مجال أمامهم، فالحجِر على ممارسة الأعمال المهمة ساري المفعول، فمنهم من عمل في تركيب أسنان الذهب، أو صنع أنواع غنية من الخمور، وآخر عمل بخياطة المصنوعات الفخارية ـ الفرفوري ـ وآخر عمل بحد السكاكين وتصليح الأدوات المنزلية!
بعد تكرس إفرازات عصر النهضة، وخاصة إكتشاف العالم الجديد ـ الأمريكيتين وأستراليا، ثم هيمنة مظاهر الثورة الصناعية، هاجر الكثير من اليهود إلى العالم الجديد بحثاً عن فُرص جديدة وربما لتحقيق الحلم المفقود، وبعضهم عاد إلى أوروبا بعد عقود قليلة ولكن هذه المرة، سيداً أرستقراطياً يعمل بالصيرفة أو بالرهون أو بالتجارة العابرة للقارات، أو بالصحف والطباعة، إلى جانب تحرر من تبقى منهم في أوروبا من الكثير من القيود التي كانت مفروضة على حركتهم وممارستهم للتجارة والأعمال الحرة الأخرى!
جميعنا قد سمع عن (البوند)؛ وهو تجمع نقابي يهودي في روسيا، وربما قرأ ما كتبه لينين عنه، وقبلها سمع عن كتابات ماركس حول المسألة اليهودية، إنها وغيرها تُدلل على عمق إشكالية الحالة اليهودية في أوروبا وليس غيرها!
ذوبت علاقات الإنتاج الرأسمالية التي بدأت تسود أوروبا الكثير من الرواسب العالقة من مرحلة الإقطاع وما سادها من علاقات ومفاهيم إجتماعية وفكرية ونفسية، لقد انحسـر نفوذ الكنيسـة بشـطريها الكاثوليكي البابوي والبروتسـتانتي، وقامت الدولـة القوميـة دولـة السـوق الواحد، وجرى اعتماد مبدأ علمنـة الدولـة أي عزلها عن الدين، وسادت روح المبادرة الفردية، وارتفع مستوى الوعي الطبقي على حساب الوعي الغيبي، وساهمت الحركات الفكرية الثورية والعلمية المستندة على الاكتشافات المعرفية النوعية وفي كافة المجالات، في إطلاق العَنان للخلق والإبداع، فكانت المخترعات، وفي فتح آفاق جديدة لفلسفة الوجود الإنساني، وقامت ثورات شعبية لانتزاع المزيد من المكاسب المستحقة للطبقات المعدمة والمسؤولة عن إنتاج الخيرات المادية، الثورة الفرنسية، والأمريكية، والألمانية، والروسية، المطالبة بترجمة نتائج الإنقلاب الإجتماعي الإقتصادي الرأسمالي الذي ساد تحتياً ليصل قمة الحكم السياسي القائم ـ فكانت المطالبات بالديموقراطية وحكم الأكثرية، والانتخاب بالإقتراع السري، والمطالبة بحقوق المواطنة المتساوية ـ العدل، الإخاء، المساوة ـ كما في أفكار (جان جاك روسو) العقد الاجتماعي، وأفكار (آدم سميث) في ثروة الأمم، وكذلك (دافيد ريكاردو) وفي الشمول الفلسفي المتقدم من بروسيا الألمانية على أياد (فيورباخ) و(هيغل)، وما جرى على رسل هذه الإنعطافات الكبيرة في مجال التنظير والمعرفة الفكرية، طبعاً قبل هذه الإنعطافات كانت هناك إسهامات جوهرية في الفكر السياسي والفلسفي ـ (ديكارت) و(ميكافيلي) ـ يُقابلهم رموز علمية صرفة ـ (غاليلو) و(نيوتن) و(داين) ثم (داروين) ومن سار على مساره في مختلف مناحي العلوم الطبيعية!
تفاعل قسم كبير من اليهود مع مجتمعاتهم وانصهروا بها حتى جرى إختراق قاعدة الزواج الداخلي أو مبدأ تهويد من يقترن بيهودي أو يهودية، ولم يختلف الأمر بالنتيجة كثيراً عن الحالة في المسيحية، أي بقاء التدين ومؤسساته وأوقافها وتناسلها متكيفة مع الأوضاع الناشئة، فاليهودية أيضاً ومؤسساتها، الكُنس والحاخاميات، والروابط التراتبية، بقيت متواصلة ومتناسلة، بل إنها في الحالة اليهودية صاحبها انتعاش نسبي بسبب من الوضع الليبرالي الذي بدأ يسود في أوروبا الغربية تحديداً بالتزامن مع تفتق سطح الرأسمالية الحرة ليتنفس نبت الإحتكار الإمبريالي المتبلور بشكل الاستعمار الكولونيالي الأول!
في هذه الأجواء وُلدت الحركـة الصهيونيـة كحركـة سـياسـيـة عنصريـة إسـتثماريـة بين الفئات الرأسـماليـة اليهوديـة، وراحت تضع التصاميم المناسـبـة لمشـروعها الاسـتثماري الإمبريالي المغلف بالأسـاطير الدينيـة، وكان (تيودور هرتزل) عرَّاب الحركـة ورئيسـها منذ مؤتمرها الأول الذي عُقد في نهايات القرن التاسـع عشـر في مدينـة (بازل)، أي في سـويسـرا ذاتها التي تحتضن هذه الأيام المؤتمر الأممي لمكافحـة العنصريـة. إن مناقشـات الجدوى الاقتصاديـة والتاريخيـة للمشـروع الصهيوني أخذت شـوطاً بعيداً حتى اسـتقر الرأي على فلسـطين، فقبلها كانت سـوريا وأوغندا واليمن مرشـحة كتصاميم تم تجاوزها عندما وجدوا في فلسـطين ظالتهم!
الإضطهاد في أوروبا الشرقية كان أكبر وأعمق بالنسبة لعموم طوائف اليهود، وحكايات ملاحقات رجال قيصر روسيا لأعضاء المؤتمر الصهيوني وحتى في سويسرا ذاتها معروفة، وأشار بعض المؤرخين إلى أن وثائق "بروتوكولات حكماء صهيون" هي من ضمن ما صادره رجال القيصر أثناء مداهماتهم لمقر الحركة في سويسرا!
على ذكر المؤرخين والكُتاب فإن بعضهم يذهب إلى القول بأن اشتغال طوائف من اليهود بتجارة المال والإقراض بالفائدة في وسط إقطاعي، جعلهم الرأسماليين الأوائل فيها، فحل عليهم سخط الإقطاعيين ورقيق الأرض في آن واحد، ولكن حين نمت الرأسمالية الصناعية والتجارية في أوروبا الغربية على مستوى المجتمع كله اختفت المشكلة اليهودية، وحصل ذلك وفق قانون أساسي يقول: إن التعصب العنصري يشتد كلما التقت الفوارق العنصرية مع الفوارق الاقتصادية "مكسيم رودنسون"!
لقد قال (ماركس) أيضا عندما سادت أوروبا الرأسمالية: غدت كلها يهوديـة؛ بمعنى أنها راحت كلها تشتغل بالربا والفائدة، بنكياً وصناعياً وتجارياً ثم إستعمارياً!
في وعد (بلفور) 1917 تمت المصاهرة الرسـميـة بعقد زواج كاثوليكي بين الحركـة الصهيونيـة ومشـروعها العنصري وبين المشـروع الإمبريالي العالمي بنسـختـه البريطانيـة، ثم تعددت النسـخ لتُتوج بالأمريكيـة السـائرة حتى يومنا هذا نحو مصيرها المحتوم!
الصراعات الإمبريالية ذاتها أدت إلى التنكيل البغيض ببسطاء وأبرياء اليهود كما حصل أثناء الحرب العالمية الثانية حيث، الترحيل والعزل وأعمال السخرة والإبادة على يد العصابات النازية التي استخدمت جرائمها تلك كنوع من التطبيق العملي لمبدأ تفوقها الرسي، ولم تكن تلك الممارسات إلا تعبيراً عن الإنحطاط الإمبريالي بصورته الأوروبية التي أرادت إعادة تقاسُم العالم وفق مقاييس المركزية الأوروبية، وهي من جانب آخر كانت مستعدة للتخلي وعلناً عن ادعاءاتها الفارغة تلك لو وجدت بذلك ما ينفعها في حربها الطاحنة مع الإمبرياليات العدوة، ونفس الشيء بالنسبة للحركة الصهيونية كمشروع إمبريالي مستعد للتحالف مع النازية الفاشية لتحقيق طموحاته حتى لو كان الثمن "إبادة الملايين من اليهود"، وهذا ما حصل فعلاً!
بعد هزيمة النازية وانتصار الحلفاء تبلور مشروع المركزية الأمريكية المتمحور حول ذراع الحلف الأطلسي، لمواجهة الخطر الشيوعي، ولمواصلة الهيمنة الإمبريالية على مصادر الطاقة، وهنا جرى الشروع العملي لتنفيذ المشروع الصهيوني بالكامل كمقاولة باطن، لها دورها في المسار الإستراتيجي للهيمنة الإمبريالية الكونية!
جرى تسـهيل الهجرة ووضع كل مقتضيات إقامة الوطن البديل في فلسـطين موضع التنفيذ، للخلاص أوروبياً من ترسـبات الماضي وما يحمله من أحاسـيـس ومشـاعر الذنب والتذكير بالقذارة العنصريـة التي كانت سـائدة تجاه اليهود في أوروبا، وكأن لسـان حالهم يقول: فليفعلوا بشـعب فلسـطين ما يُعوضهم عن مشـاعر الإذلال والعزل والتجريد من الحقوق الإنسـانيـة المشـروعـة التي مارسـناها ضدهم!!!
كان دور الدولـة المصدرة مرسـوماً مقدماً، كلب حراسـة للمصالح العليا، النفط، وليحترق مجدداً بـه أو بالقنابل النوويـة التي أعطيت من يحترق، المهم الدولـة باقيـة كالإسـفين، وما دامت السـاحة بعيدة وما دام الذي يجري يجعل من إمبرياليي أوروبا وأمريكا مجرد "فاعلي خير" ووسـطاء لحل نزاعات شـعبين لا يُطيق أحدهما الآخر، اليهود والعرب، فإن كل الأمور على ما يُرام!!
ما قاله الرئيـس الإيراني نجاد في مؤتمر جنيف حول العنصريـة، ذكَّر الأوروبيين والأمريكان بعنصريتهم التي لم ينقطع حبل سـرتها حتى يومنا هذا، واجههم بحقيقتهم وأسـمعهم ما لا يُريدون سـماعـه، بل ما يعملون على مسـحـه من ذاكرة التاريخ، وكأنهم بذلك يُريدون غسـل أدمغـة الشـعوب!
ربما لا يعلمون بأن مجرد وجود الكيان الصهيوني كدولـة يهوديـة على أرض فلسـطين، ومجرد بقاء ملايين الفلسـطينيين لاجئين في ديارهم وديار الجوار في المخيمات بإنتظار العودة، هو إعلان دائم لا يحتاج إلى ترويج على عنصريـة الصهيونيـة ومن يقف خلفها!